التربية:
هي التعاهد للنفس وللآخرين ممن يخضعون للتوجيه لدينا، وهي نوع من التوجيه والمتابعة والترقي بالنفس بتزكيتها وإصلاحها وإبعادها عن الانحراف والضلال، بما يعرف بـ"التخلية والتحلية".
وكلنا بحاجة ماسة إلى هذه التربية؛ لأنها تخلص نفوسنا من الشرور وترقيها في الكمالات، وتوصلها إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وهذه التربية في أساليبها ونتائجها تتأثر تأثراً بالغاً بالبيئة التي فيها، فللبيئة دورها في النتائج، ولهذا تختلف هذه النتائج باختلاف الأزمنة والأمكنة.
وزمننا هذا زمن "صعب" وليس هذا مِن سبِّ الدهر، إنما من باب الحكاية عما يجري فيه، وقد جاء ذكر صعوبة ما يلاقيه أهل الأزمنة المتأخرة عن النبي عليه السلام من العنت في تمسكهم بالحق.
روى الترمذي من حديث أنس بن مالك: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر».
وروى الترمذي من حديث أبي ثعلبة الخُشني: «إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيها مثل قبضٍ على الجمر».
روى اللالكائي من حديث ابن مسعود: "يأتي على الناس زمان المتمسك فيه بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر".
وروى أحمد من حديث أبي هريرة: "ويل للعرب من شر قد أقترب، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع قوم دينَهم بعرضٍ من الدنيا قليل، المتمسك يومئذٍ بدينه كالقابض على الجمر" أو قال: "على الشوك".
قال المُلاّ علي القاري: "الظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر
شديد وتحمّل غلبة المشقة، كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دنيه ونور إيمانه إلا بصبر
عظيم وتعب جسيم".
مباحث الموضوع:
1- تعريف التربية وأهميتها.
2- لماذا زماننا صعب.
3- معالم التربية الإسلامية.
4- أهداف التربية في ظل الزمن الصعب.
تعريف التربية وأهميتها:
تعريف التربية
لغة: لكلمة التربية ثلاثة أصول لغوية:
- الزيادة والنماء، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم:39].
- النشأة أو الترعرع، قال ابن الأعرابي:
"فمن يكُ سائلاً عني فإني بمكة منزلي وبها ربيتُ.
- أصلحه وتولى أمره وساسه، قال حسان بن ثابت:
ولأنت أحسن إذ برزت لنا *** يوم الخروج بساحة القصرِ
من درة بيضاء صافيةٍ *** مما تربّب حائر البحرِ
أي: الدرة، رباها مجتمع الماء في البحر.
اصطلاحاً:
قال البيضاوي "الرب في الأصل بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ثم
وصف به تعالى للمبالغة".
قال الراغب الأصفهاني: "الرب في الأصل: التربية وهو إنشاء الشيء حالاً محالاً إلى حد التمام"
أخذ عبد الرحمن الباني مما سبق أن التربية تتكون من عناصر:
1- المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
2- تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة متنوعة.
3- توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب كلها نحو صلاحها وكمالها اللائق بها.
4- التدرج في هذه العملية شيئاً فشيئاً أو حالاً فحالاً.
أهمية التربية:
1- أن الإنسان يجهل اللغة والفكر والمشاعر والأخلاق، وهنا تكمن الحاجة إلى التربية لتكوينها في نفسه.
2- أن التربية هي التي تقوم بتكوين الوعي لدى الناشئ، وهي التي تغرس في نفسه التطلع إلى المُثُل العليا والأهداف الكبرى.
3- أن التربية هي التي تنمي ملكات الإدراك والقوة العقلية، والتي تمكن الناشئ من إصدار أحكام سديدة ومنطقية من بين ركام المعلومات.
4- التربية هي التي تمكن الإنسان أن يتأهل للعيش في المجتمع بكل إيجابية، وحسن التأثير على الآخرين، والحذر من أخطاء المجتمع.
لماذا زماننا صعب:
- قال الشاطبي في حرز الأماني "الشاطبية":
وهذا زمانُ الصبر مَنْ لك بالتي *** كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا
2- قال الجنتري: "لأنه قد أُنكر المعروف وعُرف المنكر، وفسدت النيات وظهرت الخيانات،
وأوذي المُحقّ، وأُكرم المُبطل، فمن يسمح لك بالحالة التي لزومها في الشدة كالقابض على جمر النار".
3- ولأننا في زمان: ظهر حكام محادّون لله ورسوله، ينبذون شرع الله وراءهم ظهرياً.
4- وُجد حَمَلةُ المذاهب المادية الكفرية، كالشيوعيين والاشتراكيين والقوميين، ممن أصبحت
عقولهم مناطق نفوذ للشرق والغرب، وبثوا سمومهم في الأمة بالأفكار الدخيلة.
5- وُجد أصحاب البدع والأهواء والتي فرقت الأمة ومزّقت شملها، والتي صارت مِعول هدم
داخلي، وهي معاون لكل عدو متربص بالأمة، تقدم له خدماتها على حساب أبناء ملّتها.
6- وهناك الأعداء الخارجيون، والذين يبثّون ثقافتهم عبر القرارات الدولية والهجوم الشرس
على قيم الأمة وأخلاقها والعبث بمناهجها، والسعي لتغيير مبادئها وثوابتها.
7- ترك إقامة المشاريع الوحدوية، والتي تعيد للأمة مجدها وظهور دينها، بل وُجد بين الغيورين شيءٌ من الاختلاف لا مبرر لوجوده، كما قيل:
وليس غريباً ما نرى من تصارعٍ *** هو البغْيُ لكن بالأسامي تجدّدا
وأصبح أحزاباً تناحر بينها *** وتبدو بوجهِ الدين صفاً موحّدا
8- حصل عند الكثير في هذا الزمان التكبّل بالأوهام في التغيير، أو الإغراق في المثالية أو أوهام المؤامرة، لقلّة العلم والفهم القاصر للذات والمحيط.
9- حصل عند الكثير الرغبة في التخفف من القيود الأخلاقية والتغاضي عن صوت العقيدة والمبادئ، فأصبحت تصرفاتهم صفع على قيمهم ومبادئهم وثوابت دينهم.
10- فُقدت عندنا روح المبادرة، ونُزع منا الشعور بالمسؤولية الفردية، وكأنه يقال: ما يجري في زماننا أحدثه الأوائل، وسيصلحه من وراءنا من الأجيال القادمة.
معالم التربية الإسلامية:
1- تحقيق العبودية لله تعالى: يجب أن يكون مستحضراً في كل وقت قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام:162].
2- أن الوجود البشري وجود ممتد إلى ما شاء الله، وأن مدة الحياة الدنيا هي الجزء الأقل شأناً، وأن الحياة الحقيقية هي حياة الدار الآخرة، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
فالمرحلة الأهم هي الحياة الأبدية في الآخرة، وعلينا تسخير الطاقات للفوز بالسعادة الأبدية، وأن الدنيا مهما كانت فيها الانتصارات مفرحة إلا أنها مؤقتة لا تدوم، ومها كان الظلم فيها طاغياً إلا أنه زائل وبائد.
3- أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ولا بد لنا من أن نسعى إلى تحقيق هذا المعنى، فلا يتصل مسلم بغير مسلم إلا ناله شيء من رحمة الإسلام ولطفه وهديه، فالإنصاف والأمانة والعدل وأداء الحقوق والنصح والإحسان ونصرة المظلوم مقدمات أساسية يجب أن تتجلى في سلوك المسلم عند تعامله مع غير المسلم.
4- التماسك والانسجام، فلا تنافر بين أجزاء التربية ولا يجهض بعضها بعضاً.
فنجد الإسلام شرع العفة وتحصين الفرج وحث الشباب عليه وفي المقابل ساعد على تحقيقه بستر النساء ومنع الاختلاط والخلو والبعد عن المغريات الفتن.
5- التسامي على السفاسف ومحاولة الارتقاء إلى المَثل الأعلى معلم بارز بما يحقق إشباع غرائز الإنسان وبما يحقق كماله الإنساني.
6- شمول التربية على ثوابت لا يجوز المساس بها وعلى متغيرات قابلة للتطور والاجتهاد، ومما يجعل الإنسان يمارس الإبداع وعلى ضوء الثوابت والقطعيات.
أهداف التربية في ظل الزمن الصعب:
1) الإيمان العميق والتخلق بالأخلاق الإسلامية:
روى البخاري ومسلم من حديث أبن مسعود رضي الله عنه: «سُئل الرسول: أي العمل أفضل؟! قال: إيمان بالله ورسوله».
قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124].
روى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إنما بعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق».
ومما يحقق الهدف:
- توسيع دائرة معارفنا وخبراتنا بالقدر الملائم للظروف والأحوال.
- الإكثار من العبادات والقُربات.
- التضحية ببعض مصالحنا من أجل الحفاظ على مبادئنا.
- تحقيق الولاء المطلق لله ورسوله والمؤمنين.
2) امتلاك روح الكفاح والمثابرة:
- وعند امتلاكها تضبط النزعات والميول وتكوِّن الأمل والتفاؤل في النفس.
- وتعود على العبقرية في كل المجالات الحياة، ثم إلى التفوق في الإمكانات الذهنية.
- لمواجهة صفات الحياة وتحمل المسؤوليات.
3) الاستمساك بالحق ومقاومة الشرور:
قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون:71].
وقال تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70].
وهذا بدوره يعطي ثقة عالية بالنفس في مواجهة الباطل، وبهذا يصمد أمام الشبهات، يتحقق من خلاله رهافة الحس العاطفي وتزكية النفس.
قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83].
التمسك بالحق تعود النفس في الرجوع عن الخطأ والتوبة من الذنوب.
4) توسيع قاعدة الفهم:
لأنه يساعد على الاستفادة من المعلومات المتراكمة بطريقة مثمرة وحسنة، ومن أجل تجاوز الأزمات والعقبات والتي تظهر على مرِّ الأيام ومواجهة المتغيرات، من أجل الرفع من مستوى العلم؛ حتى لا نصاب بأنصاف المتعلمين؛ فقديماً قيل: نصف عالم أضر على الأمة من جاهل.
5) صناعة الطموحات الكبيرة.
6) العناية والإتقان:
- روى مسلم من حديث عمر: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».
- روى مسلم من حديث شداد: «إن الله كتب الإحسان.».
- روى الطبراني من حديث الحسين: «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها»
وثمرة هذا الهدف:
تحقيق التميز من بين الغُثائية في العمل عند الكثير؛ حتى يتوفر العمارة للأرض بنحو يفوق ما يعرفه الآخرون.
7) اللمسة الجمالية:
قال تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج: 5] أي: من غير جزع، وقال تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10]، رأى عمر رجلاً يسحب شاة من رجلها ليذبحها، فقال: "ويلك قُدْها إلى الموت قَوْداً جميلاً".
ويعودنا هذا الهدف:
- على الرفق والتأني في الأمور.
- يعودنا على الأحسن والألطف والأروع من التعاملات مع الآخرين، لإصلاح ما فسد من المجتمع من الرذائل والقبائح، فهي بقع سوداء تشوه جمال حياتنا.